Menu

بعمليتها العسكرية في الدونباس: روسيا تعيد كتابة التاريخ من جديد وتكتب شهادة الوفاة للقطبية الأمريكية

عليان عليان

بعد الخطاب التاريخي والاستراتيجي للرئيس بوتين والذي اعترف فيه باستقلال جمهوريتي دونتسك ولوغانسك، والذي تلاه توقيعه لاتفاقات دبلوماسية وعسكرية واقتصادية معهما كان متوقعا دخول القوات الروسية لإقليم الدونباس، لحسم معركة استقلال الجمهوريتين على الأرض من جهة، ولإعادة أوكرانيا إلى مربع ما قبل عام 2014، وهو العام الذي شهد الانقلاب  اليميني على الرئيس الشرعي المنتخب فيكتور يانوكوفيتش، ومن يقرأ التطورات المستمرة للمعارك على الأرض، يكتشف بوضوح العديد من الحقائق التي جرى تثبيتها على الأرض حتى مساء يوم أمس  أبرزها:
1- أن الدعم العسكري اللامحدود الذي قدمته الولايات المتحدة ودول حلف الأطلسي لنظام الحكم الانقلابي الفاشي في أوكرانيا إن على صعيد النظم الصاروخية والصواريخ المضادة للدبابات وللطائرات والذي تصاعد إلى حد إرسال (90) طناً من الأسلحة المتطورة، هذا الدعم سقط تماماً كأوراق الخريف الضعيفة، منذ اللحظة الأولى للهجوم الذي سبقه تعطيل نظم الاتصالات ما أدى لعزل التواصل بين الجيش الأوكراني وقيادته العسكرية والسياسية. فالجيش الروسي لم يكتف بدخول مناطق  الدونباس بمشاركة قوات جمهوريتي الدونباس، بل تمكن من تدمير البنية التحتية العسكرية الأوكرانية بما فيها  معظم القواعد العسكرية  وغرف العمليات الأوكرانية في العاصمة كييف ومحيطها والمدارة من قبل السفارة الأمريكية وحلف الأطلسي، وحسب التصريحات الصادرة عن وزارة الدفاع الروسية فقد تمكن الطيران الحربي الروسي من تعطيل 11 مطارا و3 نقاط قيادة  و 18 محطة رادار اس 300  وبوك إم -1-. 
2- أن اجتياح الحدود مع أوكرانيا لم يستغرق سوى دقائق معدودات دون مقاومة تذكر، حيث لم يكتف الجيش الروسي بضمان أمن جمهوريتي دوناتسك ولوغانسك في إقليم الدونباس، بل تمكن من استعادة معظم المدن في الإقليم التي سيطر عليها الانقلابيون عام 2014 ومن ثم إعادتها إلى  الجمهوريتين الشعبيتين.
3- رغم رضوخ القيادة العسكرية في أوكرانيا لتوجيهات النازيين الجدد الذين سيطروا على مقاليد الدولة منذ عام 2014، إلا أن القوات الأوكرانية من أفراد وضباط وضباط صف لم تخضع عملياً للعقيدة القتالية لحلف النيتو، ولم تتشكل لديها أدنى قناعة بمحاربة الجيش الروسي كونها لا ترى في روسيا دولة عدوة، وبحكم العلاقات بأبعادها التاريخية والحضارية التي تربط الشعب الأوكراني بالشعب الروسي، وهذا ما يفسر قيام القوات الأوكرانية على الحدود مع روسيا وفي أكثر من موقع بإلقاء أسلحتها والعبور إلى الأراضي الروسية.
4- أن القوات الروسية تمكنت من عزل أوكرانيا عن البحر الأسود ومن ثم إغلاق البحر الأسود في منطقة الصراع بشكل كامل، ما يحول دون إيصال المساعدات العسكرية الغربية عبر البحر لأوكرانيا، وذلك بعد سلسلة إنجازات عسكرية ممثلة بعمليات الإنزال في إقليم أوديسا، وبعد أن عبرت القوات الروسية من شبه جزيرة القرم  نحو ميلتوبل شرقا وخيرسون شمالاً، حيث باتت القوات الروسية على الحدود مع بولندا ورومانيا في مواجهة مباشرة مع حلف الناتو الذي أرسل آلاف الجنود إلى هذه الدول مزنرين بكل أنواع الأسلحة المتطورة.
باختصار شديد، فإن روسيا بعد استنفذت الحل الدبلوماسي بشأن مطالبها الأمنية التي رفضت الإدارة الأمريكية وحلف الناتو  الاستجابة لها، وعلى رأسها منع ضم أوكرانيا وجورجيا لحلف الناتو، وسحب الأسلحة الصاروخية من دول أوروبا الشرقية التي انضمت لحلف الناتو، والعودة بهذا الحلف إلى مناطق ما قبل عام 1997، بعد هذه العملية الجراحية لم تعد روسيا بحاجة لضمانات أمنية من أمريكا ومن الناتو، فأوكرانيا باتت في الحضن الروسي، وصواريخها النووية باتت مباشرة ومن المسافة صفر في مواجهة صواريخ الناتو في بولندا والمجر ورومانيا، وحلف الناتو والغرب عموما بات عاجزاً أمام الزحف الروسي، ولا نبالغ إذ نقول أن حلف الأطلسي يعيش حالة موت سريري. فهذا الحلف نسي أو تناسى أنه حلف عسكري، وراح يتحدث عن العقوبات ضد روسيا شأنه الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، في حين راحت الإدارة الأمريكية ورئيسة الاتحاد الأوروبي "شارل ميشال" وبقية الدول الغربية، تتحدث تباعاً عن كم هائل من العقوبات ضد روسيا، وعلى رأسها منع روسيا من استخدام نظام السوفت المالي الذي يحول دون تعامل روسيا مع السوق المالي العالمي، بهدف شل الاقتصاد الروسي ورفع نسبة التضخم فيه  ومنع روسيا من الحصول على التكنولوجيا الغربية اللازمة للصناعات الروسية.
فات حلف النيتو والإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، إدراك أن الإدارة الروسية استعدت مسبقاً لمواجهة هذه العقوبات قبل عمليتها العسكرية في اقليم الدونباس وفي أوكرانيا بسنوات عديدة ، منذ ضمها لشبه جزيرة القرم عام 2014، حيث رأت في هذه العقوبات فرصة لتطوير إنتاجها الصناعي والتكنولوجي والزراعي، تغنيها عن استيراد التكنولوجيا من الغرب، هذا (أولاً) و(ثانياً) أن روسيا وضعت نظاماً بديلاً لنظام "السوفت" المالي، لكنها لم تعلن عنه حتى الآن لأسباب تكتيكية متعلقة بإدارة الصراع مع الغرب (وثالثاً) أن روسيا تختزن مئات المليارات من عملتي الدولار واليورو (ورابعاً) أنها وقعت اتفاقات عديدة واستراتيجية مع الصين إبان زيارة الرئيس بوتين للعاصمة بكين في الرابع من شهر شباط (فبراير) الجاري انطوت على تحقيق شبه تكامل اقتصادي وعسكري بين الدولتين في مواجهة نهج الهيمنة الأمريكية وفي مواجهة العقوبات الغربية.
لقد باتت الولايات المتحدة وحلف الناتو والاتحاد الأوربي في حالة عجز أمام التطور العسكري الجديد في أوكرانيا، ناهيك أن العقوبات التي فرضتها وتفرضها الدول الغربية على روسيا، ستؤثر على هذه الدول أكثر من تأثيرها على روسيا بحكم التشبيك الاقتصادي الذي أقامته روسيا مع عدد من الدول الغربية وعلى رأسها ألمانيا، ناهيك أن روسيا لم تستخدم حتى اللحظة الورقة الاستراتيجية الاقتصادية التي تمتلكها ألا وهي أن أوروبا تعتمد بنسبة 40 في المائة من استيراد "الغاز" على روسيا.
وأخيراً، لا أملك سوى أن أردد مقولة اليأس التي رددها أمين عام حلف الأطلسي يوم أمس وهي: "أن روسيا في هجومها على أوكرانيا تعيد كتابة التاريخ من جديد"، فروسيا بهذه العملية العسكرية كتبت صك الوفاة للقطبية الأمريكية الوحيدة، بعد أن جهزت كفناً لهذه الوفاة بعمليتها العسكرية في سورية في سبتمبر (أيلول) 2015 والتي جاءت بناء على طلب الحكومة السورية.